فصل: سورة لقمان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (59):

{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)}
{كذلك} أي مثل ذلك الطبع الفظيع، وجوز أن يكون المعنى مثل ذلك القول: {يَطْبَعُ} أي يختم {الله} الذي جلت عظمته وعظمت قدرته {على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها، فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق، ومن هنا قالوا: هو شر من الجهل البسيط، وما ألطف ما قيل:
قال حمار الحكيم توما ** لو أنصفوني لكنت أركب

لأنني جاهل بسيط ** وصاحبي جاهل مركب

وإطلاق العلم على الطلب مجاز لما أنه لازم له عادة وقيل: المعنى يطبع الله تعالى على قلوب الذين ليسوا من أولى العلم، وليس بذاك، والمراد من {الذين لاَ يَعْلَمُونَ} يحتمل أن يكون الذين كفروا فيكون قد وضع الموصول موضع ضميرهم للنعي بما في حيز العلة، ويحتمل أن يكون عامًا ويدخل فيه أولئك دخولًا أوليًا.
وظاهر كلام بعض الأجلة يميل إلى الاحتمال الأول، وقد تقدم الكلام في طبعه وختمه عز وجل على القلب.

.تفسير الآية رقم (60):

{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}
{فاصبر} أي إذا علمت حالهم وطبع الله تعالى على قلوبهم فاصبر على مكارههم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} وقد وعدك عز وجل بالنصرة وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق ولابد من إنجازه والوفاء به لا محالة {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ} لا يحملنك على الخفة والقلق {الذين لاَ يُوقِنُونَ} بما تتلو عليهم من الآيات البينة بتكذيبهم إياها وإيذائهم لك بأباصيلهم التي من جملتها قولهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} [الروم: 58] فإنهم شاكون ضالو ولا يستبدع أمثال ذلك منهم، وقيل: أي لا يوقنون بأن وعد الله حق وهو كما ترى، والحمل وإن كان لغيره صلى الله عليه وسلم لكن النهي راجع إليه عليه الصلاة والسلام فهو من باب لا أرينك هاهنا وقد مر تحقيقه فكأنه قيل: لا تخف لهم جزعًا، وفي الآية من إرشاده تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتعليمه سبحانه له كيف يتلقى المكاره بصدر رحيب ما لا يخفى.
وقرأ ابن أبي إسحق. ويعقوب {وَلاَ} بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق، والمعنى لا يفتننك الذين لا يوقنون ويكونوا أحق بك من المؤمنين على أنه مجاز عن ذلك لأن من فتن أحدًا استماله إليه حتى يكون أحق به من غيره، والنهي على هذه القراءة راجع إلى أمته عليه الصلاة والسلام دونه صلى الله عليه وسلم لمكان العصمة، وقد تقدم نظائر ذلك وما للعلماء من الكلام فيها.
وقرأ الجمهور بتشديد النون وخففها ابن أبي عبلة. ويعقوب، ومن لطيف ما يروى ما أخرجه ابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم. والبيهقي في سننه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلًا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال: {وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الزمر: 65] فأجابه كرم الله تعالى وجهه وهو في الصلاة {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ} ولا بدع في هذا الجواب من باب مدينة العلم وأخي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: {الم غُلِبَتِ الروم فِي أَدْنَى الأرض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 31] إلى آخره، قيل: الألف إشارة إلى ألفة طبع المؤمنين واللام إلى لؤم طبع الكافرين والميم إلى مغفرة رب العالمين جل شأنه، والروم إشارة إلى اقلب، وفارس المشار إليهم بالضمير النائب عن الفاعل إشارة إلى النفس، والمؤمنون إشارة إلى الروح والسر والعقل، ففي الآية إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة ويغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله تعالى ونصره سبحانه تارة أخرى وذلك في بعض سنين من أيام الطلب ويومئذ يفرح المؤمنون الروح والسر والعقل، وعلى هذا المنهاج سلك النيسابوري.
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الحياة الدنيا} [الروم: 7] فيه إشارة إلى حال المحجوبين ووقوفهم على ظواهر الأشياء، وما من شيء إلا له ظاهر وهو ما تدكره الحواس الظاهرة منه، وباطن وهو ما تدركه العقل بإحدى طريق الإدراك من وجوه الحكمة فيه، ومنه ما هو وراء طور العقل وهو ما يحصل بواسطة الفيض الإلهي وتهذيب النفس أتم تهذيب وهو وإن لم يكن من مستنبطات العقل إلا أن العقل يقبله، وليس معنى أنه ما وراء طور العقل أن العقل يحيله ولا يقبله كما يتوهم، ومما ذكرنا يعلم أن الباطن لا يجب أن يتوصل إليه بالظاهر بل قد يحصل لا بواسطته وذلك أعلى قدرًا من حصوله بها، فقول من يقول: إنه لا يمكن الوصول إلى الباطن إلا بالعبور على الظاهر لا يخلو عن بحث {فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] أي يسرون بالسماع في روضة الشهود وذلك غذاء أرواحهم ونعيمها، وأعلى أنواع السماع في هذه النشأة عند السادة الصوفية ما يكون من الحضرة الإلهية بالأرواح القدسية والأسماع الملكوتية، وهذه الأسماع لم يفارقها سماع {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} [الأعراف: 172] واشتهر عندهم السماع في سماع الأصوات الحسنة وسماع الأشباه المحركة لما غلب عليهم من الأحوال من الخوف والرجاء والحب والتعظيم وذلك كسماع القرآن والوعظ والدف والشبابة والأوتار والمزمار والحداء والنشيد وفي ذلك الممدوح والمذموم. وفي قواعد عز الدين عبد العزيز بن عبد عبد السلام الكبرى تفصيل الكلام في ذلك على أتم وجه، وسنذكر إن شاء الله تعالى قريبًا ما يتعلق بذلك والله تعالى هو الموفق للصواب {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] إلخ فيه إشارة إلى أنه ينبغي استغراق الأوقات في تنزيه الله سبحانه والثناء عليه جل وعلا بما هو سبحانه وتعالى أهله فإن ذلك روضة هذه النشأة، وفي الأثر إن حلق الذكر رياض الجنة {يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} [الروم: 19] فيه إشارة إلى أن الفرع لا يلزم أن يكون كأصله.
إنما الورد من الشوك ولا ** ينبت النرجس إلا من بصل

{وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا} [الروم: 21] فيه إشارة إلى أن الاشتراك في الجنسية من أسباب الألفة.
إن الطيور على أشباهها تقع

{كُلُّ حِزْبٍ بما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32] فيه إشارة إلى أنه عز وجل لم يكره أحدًا على ما هو عليه إن حقًا وإن باطلًا، وإنما وقع التعاشق بين النفوس بحسب استعدادها وما هي عليه فأعطى سبحانه حلت قدرته كل عاشق معشوقه الذي هام به قلب استعداده وصار حبه ملء فؤاده وهذا سر الفرح، وما ألطف ما قال قيس بن ذريح.
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ** ومن قبل ما كنا نطافا وفي المهد

فزاد كما زدنا فأصبح ناميا ** وليس إذا متنا بمنفصم

العقد ولكنه باق على كل حادث ** وزائرنا في ظلمة القبر واللحد

{وَإِذَا مَسَّ الناس} [الروم: 33] الآية فيها إشارة إلى أن طبيعة الإنسان ممزوجة من هداية الروح وإطاعتها ومن ضلال النفس وعصيانها، فالناس إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومستهم البلية وانكسرت نفوسهم وسكنت دواعيها وتخلصت أرواحهم عن أسر ظلمة شهواتها رجعت أرواحهم إلى الحضرة ووافقتها النفوس على خلاف طباعها فدعوا ربهم منيبين إليه فإدا جاد سبحانه عليهم بكشف ما نالهم ونظر جل وعلا باللطف فيما أصابهم عاد منهم من تمرد إلى عادته المذمومة وطبيعته الدنية المشؤمة {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} [الروم: 41] إلخ فيه إشارة إلى أن الشرور ليست مرادة لذاتها بل هي كبط الجرح وقطع الأصبع التي فيها آكلة {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ} [الروم: 60] فيه إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يوقنون بصدق أحوالهم ولذا يستخفون بهم وينظرون إليهم بنظر الحقارة ويعيرونهم وينكرون عليهم فيما يوقولون ويفعلون، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الموقنين وأن يحفظنا وأولادنا وإخواننا من الأمراض القلبية والقالبية بحرمة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

.سورة لقمان:

أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنزلت سورة لقمان بمكة ولا استثناء في هذه الرواية وفي رواية النحاس في تاريخه عنه استثناء ثلاث آيات منها وهي: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} إلى تمام الثلاث فإنها نزلن بالمدينة وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما هاجر قال له أحبار اليهود: بلغنا أنك تقول: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} أعنيتنا أم قومك؟ قال: «كلا عنيت» فقالوا: إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء فقال عليه الصلاة والسلام: «ذلك في علم الله تعالى قليل». فأنزل الآيات.
ونقل الداني عن عطاء وأبو حيان عن قتادة أنهما قالا: هي مكية إلا آيتين هما: {ولو أن ما في الأرض} إلى آخر الآيتين.
وقيل: هي مكية إلا آية وهي قوله تعالى: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} فإن إيجابهما بالمدينة وأنت تعلم أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء كما في صحيح البخاري وغيره فما ذكر من أن إيجابها بالمدينة غير مسلم ولو سلم فيكفي كونهم مأمورين بها بمكة ولو ندبا فلا يتم التقريب فيها نعم المشهور أن الزكاة إيجابها بالمدينة فلعل ذلك القائل أراد أن إيجابهما معا تحقق بالمدينة لا أن إيجاب كل منهما تحقق فيها ولا يضر في ذلك أن إيجاب الصلاة كان بمكة.
وقيل: إن الزكاة إيجابها كان بمكة كالصلاة وتقدير الأنصباء هو الذي كان بالمدينة وعليه لا تقريب فيهما.
وآيها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني وأربع وثلاثون في عدد الباقين.
وسبب نزولها على ما في البحر أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه وعن بر والديه فنزلت.
ووجه مناسبتها لما قبلها على ما فيه أيضا أنه قال تعالى فيما قبل: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة وأنه كان في آخر ما قبلها ولئن جئتهم بآية وفيها: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا}.
وقال الجلال السيوطي: ظهر لي في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح بالم إن قوله تعالى: {هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون} متعلق بقوله تعالى فيما قبل: {وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} الآية فهذا عين إيقانهم بالآخرة وهم المحسنون الموصوفون بما ذكر وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات وابتداء الخلق.
وذكر في السابقة في روضة يحبرون وقد فسر بالسماع وذكر هنا: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي.
وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك وأقول في الاتصال أيضا: إنه قد ذكر فيما تقدم قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} وهنا قوله سبحانه: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} وكلاهما يفيد سهولة البعث وقرر ذلك هنا بقوله عز قائلا: {إن الله سميع بصير} وذكر سبحانه هناك قوله تعالى{: وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون}، وقال عز وجل هنا: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} فذكر سبحانه في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الأخرى إلى غير ذلك.
وما ألطف هذا الاتصال من حيث إن السورة الأولى ذكر فيها مغلوبية الروم وغلبتهم المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تحاربا عليها وخرج بذلك عن مقتضى الحكمة فإن الحكيم لا يحارب على دنيا دنية لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وهذه ذكر فيها قصة عبد مملوك على كثير من الأقوال حكيم زاهد في الدنيا غير مكترث بها ولا ملتفت إليها أوصى ابنه بما يأبى المحاربة ويقتضي الصبر والمسالمة وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى.
بسم الله الرحمن الرحيم